اقترب من النافذة الوحيدة التي سمحتْ لظلام الليل أن يتسللَ عبرها، كانتْ عالية جداً وصغيرة، حدقَ في السحب السوداء التي زادتْ المساء تجهماً وحزناً، بدا مترقباً، قلقاً بينما العرق أخذَ يتصببُ من جسدهِ النحيل، كان متيقناً من إنّ صديقهُ سيحضرُ في الموعد كما يفعل كل ليلة، شعرَ بأنفاسهِ قبلَ رؤيتهِ للظلِ يقترب منه، التفتَ ليجده أمامه، لمْ يتغيرْ فيه شيء سِوى أن وجهه بدا أكثرُ إصفراراً وشحوباً، هربَ بسرعة ليلتصق بزاوية الغرفة قبل أن يسمعه يردد ذات العبارة :
- لا تخفْ !!
جلسَ على الأرض ليكور جسده فيبدو كصخرة، مرتْ لحظات صمت مرعبة قبل أن يردَ عليه
- كم كرهتُ الليلَ لإنه يحملكَ إليّ ؟! زائرٌ ثقيل يجثمُ على صدري، يُصادرُ أنفاسي، يحبسُ روحي، مرَ عامٌ وأنتَ تزورني كل ليلةٍ، ضاقتْ بكَ الأرضُ فلمْ تجدْ غير هذه الغرفة المظلمة العفنة لتشاركني العيشَ فيها ! سئمتُ منكَ، ابتعد عني !!
أصوات الصراصير جعلتْ المكان يبدو أكثر وحشة حتى تهيأ له أنها ستهجم عليه كما يراها في أحلامه، إلا أن أنين خافت كان يخرج من قلب صديقه أخرجه مما كان فيه، نهضَ بسرعة وأتجه إلى الزاوية الأخرى البعيدة ليصرخ :
- دموعكَ هذه لنْ تستعطفني ! تلك الدماء على ثيابكَ لنْ تخيفني ! لن أطلبها منكَ، أبداً، أبداً، لنْ أقولَ لكَ سامحني، لنْ أركعَ تحتَ قدميكَ لإنالَ مغفرتكَ، إياكَ أنْ تقتربَ مني،
رفعَ رأسه قليلاً وقال له وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيهِ :
- لقد سامحتكَ منذ زمن ياصديقي !!
شعرَ بخوفٍ مفاجىء فأسرع إلى الزاوية التي كانَ يختبأ فيها وأحاط رقبته بكفيه الكبيرتين وهو يحاول جاهداً إخراج الكلمات من بين شفتيه :
- ابتسامتكَ تقتلني؛ تخبرني كيف كنا أصدقاء، لا يفارق أحدنا الاّخر، لا أريدُ رؤية وجهكّ لإنه يذكرني كم كنتَ لطيفاً، ودودا،ً بل ومخلصاً .
اقترب منه الظل محاولاً سحبَ يده :
- هاتِ يدكَ ..
- ابعدْ كفيكَ الكريمتين عني ! لا تحدقْ فيّ هكذا، عيونكَ تشعُ فرحاً وبراءةً،
لا تصمتْ؛ صمتكَ يقتلني؛ لا تتكلمْ؛ أنينكَ يعذبني، أخرجْ، دعني أهنأ بليلتي الأخيرة، دعني أرحبُ بضيوفي، جيوش الخوف أحنُ منكَ، رسلُ الموت أرحمُ منكَ .
- سأخرجُ، هذه ليلتي الأخيرة معك، سأغادر هذه القضبان وهذا الليل .
انتظر !! قبل أنْ تخرجَ، ها أنا أطلبها منكَ، أركعُ تحتَ قدميكَ لتصفحَ عني، فكَ أسري، أمنحني الموت، فعالمه فسيحُ رحب، لا أريد هذه الحياة التي تذكرني بكَ وبما فعلته معك .
وهو يغيب خلف الجدران قال له :
- لقد غفرتُ لك يا مَنْ كنتَ صديقي، لكنك لم تغفر لنفسك ..