الزاوية الأخرى

كانت ساخنة وثقيلة وأيضاً لزجة .. رائحة الدم النفاذة التي ايقظتْ مشاعر خوف قديم كان يظّنُ إنّ النسيانَ قد التهمها فاذا بها تكشرُ عن أنيابها .. فأخذ يبحثُ عن مهرب في خيط نور تسلل عبر نافذة صغيرة ليستقر في المكان الذي هو فيه .. فتقاسما معاً الوحشة والعتمة .. صرير باب يُفتح وصوت خطوات تقترب منه أعادتْ له الذاكرة الهاربة .. همس لرجالٍ تناهى إلى سمعه .. لم يتبين وجوههم .. حملتْ ثيابهم رائحة الألم الذي يشعرُ به .. لم تصدر منه سوى كلمتين .. من أنتم ؟؟
جاءه الصوتُ بارداً :
- هل كنت تظنُ أن بمقدوركَ النجاة بما فعلت؟ لم أعهدكَ غبياُ ! أو لعل حدسي خانني هذه المرة .. هل تدري؟ أنّ كلماتكَ تروق لي .. لطالما راقت لي .. أحرصُ على قرائتها دائماً .. لا أدعُ حرفاً يفلتُ مني .. أذكر جيداً أنك كنتَ موهوباً .. على انغام قلمكَ راقصت كلماتكَ السطور .. تحلّقُ بنا بعيدً .. إلى سماء الأحلام ثم تهوي إلى أرض الواقع البشع لنجده أكثر بشاعة ..
هربَ خيط النور الوحيد الذي كان يفترشُ أرض الغرفة وتركه وحيداً مع صوت من الماضي ظنّ أنه لن يسمعه ثانية .. لكن الأيام التي سخر منها .. تسخر منه الآن .. ودون ان يبعد عينيه عن النافذة .. سألهُ ..
- مَنْ أنت ؟
لكن الصوت لم يأبه له واستأنف يقول :
- كنتَ أنساناً إلى أن قدمتَ نفسكَ قرباناً لأفكارهم .. فأراقوا دمكَ ليسقوا به زهور الشيطان .. وكنت أول القاطفين لها فخنقكَ عبيرها .. استغلوا ذلك القلم لينفثوا سمومهم في مدادكَ .. فتلوثت كلماتكَ لتُقتلَ فوق السطور .. بعدها .. مات فيكَ الإنسان ..
رائحة السجائر الرخيصة التي ملأت المكان .. حملته بعيداً وألقتْ به في دهاليز الذكريات .. لا يسمع فيها سوى صدى ضحكات صبيين افترقا عند أول منعطف للحياة .. تحسسَ بقع الدم على ثيابه .. كانت يابسة وقاسية .. بدأت جراحه تستيقظ .. تستصرخهُ .. الأشياء التي يعرفها لم تعد كما هي .. الكلمات التي يحسن قولها .. فقدتْ معانيها .. الصور التي ما زال يحتفظ بها في مخيلته .. اختلطتْ ألوانها فضاعتْ بينها الملامح .. ثمة كلمة قالها .. كلمة واحدة غيرتْ الوجوه والأماكن وتاهتْ بعدها الخطوات ..
لم ينقذه من نفسه إلا صوت انبعث من الزاوية الأخرى ..
- الطريق التي اخترتَ السير فيها .. ضيق جداً لا يسمح بالعودة .. لأنك لم تبتع تذكرة الغفران .. الخطوات وهي تتقترب منه أخبرته بالنهاية
-
- أنفاس باردة اقتربت لتهمس في أذنه ..
- بكم بعتَ الوطن ؟