اللغة والفكر
في طفولتي، كان سماع مقطوعة موسيقية يوقظ داخلي مشاعر وأفكارا ما غامضة، كنت أفتش في ذاكرتي عن مفردات قادرة على قول ما قالته الموسيقى، فلا أجد!
وقد جعلني ذلك أؤمن أن ثمة أشياء داخلنا أصعب من أن تُقال، وأعقد من أن نحيط بمعانيها واضحة. لكنها بالتأكيد موجودة، والدليل .... أن الموسيقى قد قالتها.
فالموسيقى لغة، بلا أحرف. لغة صوتية. لكنها تتميز عن لغة الحروف أنها لا تقف عاجزة أمام حوائط المفردات، ولا مقيدة بحبالنا الصوتية. إنها تنساب بنعومة فائقة كموجة بحر، تغمرنا، وتأخذنا. لا يهم جنسك أو لونك أو لسانك، إنها تنفذ داخل الجميع بلا استئذان.
الموسيقى كانت المحرك الأول الذي جذب انتباهي إلى ملاحظة مهمة، وهي أننا لا ندرك الفكرة ثم نعبر عنها، بل العكس هو الصحيح. بمعنى: أن وجود لفظ في اللغة يشير إلى معنى ما هو الضامن الوحيد لإدراك ذلك المعنى بوضوح، وأن تعلم مفردات جديدة قادر على فتح مسارات جديدة للتفكير في الدماغ، بمعنى:
كل مفردة جديدة تعنى معنى جديد في عقلك.
والعكس صحيح، بمعنى: أن كل معنى لا يقابله مفردة لغوية لديك يظل حبيس منطقة مظلمة داخلك، يظل مبهما، لا تستطيع أن تمسكه بوضوح، لا تستطيع خلق ارتباطات بينه وبين معانيك الواضحة، لا تستطيع توظيفه في عملية التفكير والخلق والإبداع. يظل مجرد شبح، إلى أن تتعرف على مدلوله اللفظي، هنا يخرج المعنى إلى النور.
وتسير الأمور على النهج نفسه ولكن من زاوية أخرى إذا طبقنا تلك النظرية على حالة تعلم لغة أجنبية.
فلكل لغة قواعد مختلفة وطريقة مختلفة في خلق الجملة، وأولوية مختلفة لترتيب أركانها، مما يعطي تأثيرا مختلفا ويعيد تشكيل الصيغة النهائية للفكرة بين اللغات المختلفة. كما أن بعض المعاني تجد التعبير عنها واضحا وسهلا في لغة ما، بينما تجد من الصعوبة التعبير عنها بالدقة نفسها في لغة أخرى فقيرة، وربما تجد معنى آخر يحل محل ذلك المعنى وإن كان يقاربه، لكنه أكثر تماشيا مع ثقافة الشعب الذي يتحدث تلك اللغة.
وكلما كانت اللغة أكثر ثراء في مفرداتها، كان ذلك يعني قدرتك على وضع خطوط فاصلة واضحة بين معان متقاربة ربما تبدو متشابهة جدا أو حتى متطابقة إذا حاولت التعبير عنها في لغة أخرى.
أي أن تعلم اللغات الأكثر تعقيدا في قواعدها والأكثر ثراءً في عدد مفرداتها يعني تنمية وتطويرا تلقائيا لعملية التفكير لدى الإنسان.
ربما نجد حولنا تطبيقا بسيطا لهذه الفكرة لكن لا يدركه الجميع مع الأسف، وهو تحفيظ القرآن الكريم للأطفال في سن مبكرة، ذلك الذي يشكل بأقل الجهد عقلا يقظا متفتحا ولسانا طلقا واثقا.
شادن شاهين