قصة قصيرة
يومِيَّات طالبة مظلومة
ميادة مهنا سليمان
في حِصَّةِ التَّاريخِ، اعتدْتُ ان أهربَ إلى المقعدِ الأخيرِ، بسببِ تلكَ العادةِ المقيتةِ للأستاذِ، فقد كان عصبيًّا، يتطايرُ الرَّذاذُ من فمِهِ حينَ يشرحُ الدَّرسَ. كما أنَّني كنتُ أستغِلُّ الفُرصةَ، حينَ يكتبُ شيئًا على اللوحِ، فأُلقي نظرةً على الشَّارعِ، وأسعَدُ بتلكَ الالتقاطاتِ الجميلةِ الَّتي كانتْ تلمَحُها عينَيَّ.
اليومَ درسُنا كانَ عن المُثقَّفينَ الَّذينَ أعدمَهم السَّفاح جمال باشا، وكانَ الأستاذ يشرحُ بِإسهابٍ مكرِّرًا أفكارَ الكتابِ المدرسيِّ دونَ أن يأتي بمعلومةٍ تُشعرني أنَّهُ يمتلك ثقافةً واسعةً. كانَ يجترُّ ما في الكتابِ، مثلَ كثيرينَ غيرِه، وكأنَّ المعلوماتِ وجبةٌ يبتلعها وكفى! حينَ ضِقتُ ذرعًا بصُراخهِ، الَّذي يُفترَضُ أنَّهُ شَرْحٌ!
رائِحةٌ عطرٍ أُحِبُّها غازَلَتْ قلبي، نعم، خفقي لا يُخطىءُ؛ إنُّهُ ذاكَ الشَّابُ الوسيمُ الَّذي كانَ يقفُ يومِيًّا عندَ بابِ المدرسةِ يسرقُ منِّي نظراتٍ خجولةً دونَ أنْ يقولَ شيئًا، لم أعدْ أحتملُ، أريدُ أنْ أنظرَ من النَّافِذَةِ، سمعتُ نداءَ قلبي، ونظرتُ، ثمَّ جلستُ، وكدتُ أطيرُ منَ الفرحِ، فقدِ اشتقتُ إليهِ، مرَّ أسبوعٌ لم يأتِ، لا شكَّ أنَّ مكروهًا حصلَ معهُ، وأنا في غمرةِ تساؤلاتي، صحوتُ على نكزةٍ من صديقتي، وهيَ تُشيرُ بسبَّابتِها نحوَ الأستاذِ.
لقد كانَ ممتعضًا، يحدِّقُ فِيَّ، ويقول: أنتِ، أنتِ، قِفي! أخبريني متى نفَّذَ جمال باشا حُكمَ الإعدامِ؟
قلتُ بثقةٍ كبيرةٍ: يومَ عيدِ ميلادِه!
زمجرَ قائِلًا: قليلةُ أدبٍ تسخرينَ مِنِّي!
قصَفَنِي ببقايا طبشورةٍ كانتْ في يدِه، وأشار لي أنِ اخرُجي!
كنت قد قرأتُ الكثيرَ عن هذا السّفّاحِ خارجَ المُقرَّرِ المدرسيِّ، لذلكَ لم أهتمَّ لتلكَ المعلوماتِ الّتي كانَ يزُجُّها الأستاذُ في عقولِنا.
التقطتُ الطَّبشورةَ، وأنا أسخرُ منهُ في سِرِّي:
كثيرونَ لا يعرِفونَ أنَّ السَّادِسَ منْ أيَّارَ عيدِ الشُّهداءِ يُصادِفُ أيضًا عيدَ ميلادِ السَّفَّاحِ الَّذي أعدمَهُم!
ثُمَّ أيُّ أُستاذِ تاريخٍ هذا الَّذي لا يعرِفُ أنَّ جمالَ باشا السَّفَّاحَ يُصادِفُ عيدُ ميلادِهِ في: (السَّادِسِ مِن أيَّارَ، عامَ ثلاثةٍ وسبعينَ وثمانِمِئةٍ وألفٍ) ومن المؤكَّدِ جهَلُهُ أنَّهُ توفِّيَ في (الحادي والعشرينَ من حزيرانَ عامَ اثنينِ وعشرينَ وتسعِمِئةٍ وألفٍ.)
لعلَّها مصادفةٌ غريبةٌ أنَّهُ أعدمَ الثُّوَّارَ في يومِ عيدِ ميلادِهِ، ولرُبَّما أرادَ الاحتفالَ على طريقتِهِ!
بينما كنتُ أفتحُ البابَ، كي أخرُجَ مطرودةً، انتابَني شعورٌ بالقهرِ من الأستاذِ الَّذي ظلمَني، وجرحَني. كانَ الشَّيءُ الوحيدُ الَّذي وَاساني رائحةَ عطرِ ذاكَ الشَّابَ، فغيَّرتُ رأيي، وقرَّرتُ أنْ أكتبَ على اللوحِ شيئًا من إبداعي؛ بما أنَّ الأستاذَ لا يحترمُ ثقافتي، وبما أنَّني مطرودةٌ على كلِّ الحالاتِ، لذلكَ قبلَ أنْ أخرُجَ كتبتُ بالطَّبشورةِ الَّتي كانتْ ما تزالُ في يدِي:
دَقيقةَ صَمتٍ
يقِفُ قلبي..
كُلَّما مرَّ
مَوكِبُ
عِطرِكَ القُدسِيِّ!