شكرا محفوفةً بالود والتقدير للناقد الجزائري الأستاذ
عبد المالك بولمدايس
على هذه الاستفاضة النقدية التي حفرت الغيم
وقطفت الماء من مقالعه الحريرية ..
والشكران للأديب د. موسى الشيخاني عرار
على كرم النشر في وكالة أنباء عرار بوابة الثقافة العربية..
مع الشّاعرة الأردنية آمال القاسم
الشاعرة آمال القاسم امرأة تستنطق التاريخ لتنزع منه اعترافات طالما أخفاها و تستدرج شعراء عكاظ لمحفلها لتذيقهم من شهد شعرها غرفات و غرفات فيعودون و قد ثملوا طاهرين كيوم ولدتهم أمهاتهم...في شعرها نكهة البنّ العربي المعطر بالقرنفل لا يملّه شاربوه ...تقاطيعه صيغت من ديباج واد عبقر و جوري الشآم و حوَر عيون زرقاء اليمامة و عبق الدين الحق ...
و في هذه المقطوعة تستحضر قصّة زليخة يوسف عليه السلام لكنها تعطي لها دلالات جديدة و تضفي عليها مسحة من الجمال ...
و فلعل شاعرتنا أرادت أن تحيي من جديد قصة زليخة المرأة العاشقة الوالهة و أنّ لكلّ عصر زليحته ......
ثلاث قطع لصورة مهربة من أرشيف الذاكرة.... البئر - فراود. - ثوبا ...تشير صراحة لتلك الملحمة الوجدانية التي سجلها القرآن الكريم و أحيت فصولها شاعرتنا في هذه المقطوعة الفاتنة لكن بمشاهد جديدة و نص و سيناريو آخر ...
.. ولأنّه كانَ اسمُك في البَدْء ..
إشارة لقوله تعالى "و علّم آدم الأسماء كلّها" و في هذا إقرار لأدم بالسبق و الفضل و أحجمت عن ذكر تفاصيل الحلق و البداية و اكتفت بلام تعليل و أداة تأكيد تعويلا على ذكاء القارئ و فطنته و قصة بدء الحليقة أشهر على نار على علم ..و هذا من براعة الاستهلال و الذهاب مباشرة إلى تفاصيل أشعارها و هو من المراد من إيراد هذا الأسلوب السهل الممتنع...
أسرجتُ مائي إلى زمزمِكَ
ويمّمْتُ قلبي إلى حبلِك ..
وأرخيتُ نخلي على غصنِكَ
ثلاثة أفعال تصوّر موقفها من الرجل ..(أسرجت) إشارة إلى استعداداتها لبدء شدّ رحالها إلى حيث أخيها الرجل و (يممت )أي توجهت بقلبها صوب البئر التي يسكنها الرجل...تماما كقصة يوسف عليه السلام ..لتستخرج بحبل رشاها حبيبها اليوسفي الذي علق وسط الدلو في غيابات البئر..
و (أرخت) إشارة إلى بدء عملية الإنقاذ الملحمية ليوسف الحبيس ..فأمها عصن يتيم وحيج لا سند له و لا دفء فمالت عليه بواحات نحيلها لينعم بالدفء و الأمن و الغذاء و الرعاية و الحنان...و لا يخفى ما في النحلة من فوائد و نعم و أفضال....
و ماذا كانت غايتها المنشودة من هذه المقدمات الحانية الدافئة و ما الذي تريده من حبيبها اليوسفي العالق في أسفل الجب...
روادْ - ابنٍ – لا تنقضْ - ارتدِ – اكتب.. فإذا دان لأوامرها و أطاع ما الذي يناله و يفز به لتأتي أفعال المضارعة لتكمل المشهد البطولي لتضحيات المرأة.. (لتبايع ) – ( ليكون )..
و بين هذه الأفعال ينجلي السر و تنكشف الحقيقة ....
و دون انتظار و مباشرة تأتي فاء التعقيب بجملة من الأوامر في صيغة و النواهي تصب كلها في صالح اليوسفي العالق...
فراودِ البئرَ،
اقتباس قرآني يزيد المشهد إثارة و حركة.. إنها حالة هستيرية دحلتها زليخة هي راودت فتاها عن نفسه فاستعصم لكن هذه المرأة اليوسفي هو الطي ( يرواد ) و ليست زليحة و في هذا عكس للمشهد تماما و إعادة إخراج جديد...و المرأأة عموما تميل إلى من يحسن ترويجها بلطف و لباقة و جسن ثناء و استدراج..
ف أصبح للبئر مكانة عظيمة و مخوصة بعدما سكنتها زليخة.. و انقلب السحر على الساحر...
و توظيف فعل الأمر إذا كان بين المتحابين فزيادة حرص و ود و عناية و خصوصية ...
سوِّغْ شرابَه الظامئَ ،
وابنِ من خمرٍ عشياتِه
بيوتًا من الشعرِ
فوق ثمالةِ كؤوسِكَ
ومعانيك..
و هذا المقطع السابق يعكس مشاهد الحياة الهنية بين قلبين أخلدا إلى بعضهما البعض و قالا للسعادة هيت لك ... حيث لا ظمأ روحي إلا سكب لخمر معتّق سائع شرابها كلّ عشيّة تحت أنغام الشعر و ترانيمه إلى حدّ الري و الشبع و الثمالة للدال و المدلول أي اتحاد اللفظ في معناه و هذه صورة جمالية نادرة للعشق الدنيوي الجامح اللامحدود في الزمان و المكان و الأشخاص....
ولا تنقُضْ غزْلَكَ
لتُبايعَ أرياشي،
فقد نسجتُ من دمي
ثوبًا لعرائِكَ في العدم ..
فارتدِ دمي...
و هما في قمة الاتحاد و التوافق يرودها إحساس مريب و هذا من طبيعة المرأة عندما تصل سعادتها إلى الذروة و هو قلقها و حوها من نقض الرجل للعهود بعدما نال مأربه و بلغ مرامه...إنه شعور الخيانة و القطيعة...و ها هي تقتبس مرّة أخرى من القرآن الكريم.. "أو كالتي نقضت غزلها " لتعير عن ذلك الشعور المرعب بعدما أدفأتها من بعد ما كام عاريا بأرياشها إشارة إلى قصة أطم و حواء في الجنة التي أخرجا منها...و قد اختلطت دمائها بدمائه و أصبحت رداؤك الذي يدفئك و يحميك من البرد القارس و من لفح الشمس الحارق....
واكتبْ بفمِكَ حرائقَ الماء ِ
و لا تنسى كم أطفأت حرائق نزوتك بناء قيمتي البارد و جوّن ذلك في صفحات التاريخ لأذكر: إذا نسيت يوما ما .....
وتأتي النتيجة الكبرى و تحاكي قصة الانفجار الكبير الذي حدث إيذانا ببداية حياة جديدة على هذا الكون و وفق شروط و سنن كونية كبرى..
ليكونَ انفجارُكَ العظيم..!
و يا له من انفجار عظيم لا يتبعه نغص و لا مضض و كجر و لا تعاسة ...و هذه هي النتيجة الطبيعية ليوسف و زليخة عليهما السلام...
بولمدايس عبد المالك
تونس في 30/05/2020