اشتعال الإشارة الحمراء .. أعطاني الوقت لأشعر ببعض الراحة لأنني تعبت من المشي وأنا أنتعل الحذاء ذا الكعب العالي .. الشارع مزدحم كعادته في مثل هذا الوقت من كل يوم .. وأنا أراقب الإشارة التي في الطرف الأخر .. لمحته ..
قبالتي تماماً .. على الطرف الأخر .. أزداد وزنه قليلاً .. بدا أقصر قامة .. لكنه لم يفقد شيئاً من وسامته .. التقت نظراتنا .. كم من الأعوام مرتْ ..
خمسة عشر عاماً ونصف العام ..
لم أنسَ .. لازلت أتذكر ذلك اليوم الخريفي الغائم .. وكأني للتو أسمع خشخشة الأوراق اليابسة وهي تتكسر تحت أقدامنا ..
كأنها موسيقى للحب تعزف لنا وحدنا وعلى أنغامها كنا نسير .. بل نرقص .. ثمة عصافير تغرد لنا .. لم نشعر بحبات المطر وهي تسقط فوق رأسينا ثم تتسلل بهدوء لتستقر على ثيابنا ..
حياناً حارس الحديقة بابتسامته المعهودة .. فقد تعود أن يرانا معاً كثيراً .. كنت أحيا حلماً جميلاً .. إلى أن ايقظتني صفعة كلماته .. لم يجرؤ وهو يقولها النظر في عينيّ .. بل أخذ يتلفت حول نفسه ..
يبحث عن الكلمات التي هربت منه خجلى .. لن استطيع رؤيتكِ مرة أخرى .. أنا مغادر إلى بلد أخر .. وقفتْ الأرض بيّ .. لقد كان المطر حنوناً عليّ عندما شاركني البكاء فاختلطتْ دموعي بدموعه .. سكتتْ العصافير .. أتعبها الغناء .. ساد الصمت إلا من صدى كلماته .. لم يكن يعرف كم أحببته .. ولا زلت أحبه .. كنت أتمنى أن أصرخ أو أهمس .. فقط أطلب منه البقاء لكنه غادر مسرعاً وأصبح في الطرف الأخر ...
في الطرف الأخر وقفَ يحدثُ نفسه :
لا ! ليست هي .. بل هي .. ماذا أفعل؟ يا إلهي !! مازالت جميلة ورشيقة .. ترتدي الملابس الغالية كعادتها .. كم من السنين مرتْ ؟! لستُ متاكداً .. ربما أربعة عشر عاماً .. لكني لازلتُ أتذكر ذلك اليوم الربيعي الجميل .. حين قررتُ لملمة شجاعتي وأخبرتها بأنني سأرحل .. ليتني لم أفعل ..
ليت شجاعتي خانتني ولم تنجدني ذلك اليوم ..
لكن ماذا كان بوسعي فعله؟ هل أخبرها بأني رجل فقير؟ وهي ابنة الحسب والنس .. هل أخبرها بأنني تقدمت لخطبتها وجاءني الرفض مغلفاً بالأهانة .. كرامتي منعتني .. لم تسمح لي بذلك لم اقوى على النظر في عينيها ..
كنت ضعيفاً أمام تلك العينين الجميلتين؟!..
لو تعرف كم أحببتها ولازلت ..
هربتْ بيّ الأرض بعيداً عنها وتركتها وحيدة في الطرف الأخر ....
اشتعلت الإشارة الخضراء معلنة السماح لنا بالسير .. وسار كل واحد منا دون أن ينظر في وجه صاحبه .. بأتجاه الطرف الأخر ••