وفي اليوم التّالي أخبر يمان مدير المدرسة بما جرى فاستدعى المشاكسَ ياسرَ وهدّده بعدم دخول الصّفّ في الغد إن لم يحضر والده. بعد قرابة أسبوع لاحظ يمان أنّ ابنة البائع تأتي ومعها صبيّةٌ صغيرةٌ توصلها، وعند الانصراف تأتي، وتأخذها. انشغل باله على صديقه العجوز الفقير، فاقترب من الصّبيّة وسألها عنه بلهفةٍ. ردَّت محزونةً: آهٍ، إنَّ والدي المسكين صدمتْهُ سيّارةٌ مسرعةٌ، ولكنّ الله ستره بأعجوبةٍ، فقد اقتصر الأمر على كسرِ إحدى ساقَيهِ، وتحطّمِ العربةِ الّتي كانت موردَ رزقِنا. تألّمَ يمانُ كثيرًا ممّا سمعهُ، فطلبَ منها أن توصلَ إليه سلامهُ، ودعا لهُ بالشّفاءِ العاجلِ.
عاد إلى المنزل، ولمّا شعرت الأمّ أنّه حزينٌ، سألته: مابكَ يايمانُ، هل أزعجك أحدٌ في المدرسة؟ فقالَ لها، سأحكي لكِ عن سرِّ شِراءِ الرُّمَّانِ في كلّ يومٍ ياأمّي، ثمّ حكى لها قصّة البائعِ الفقيرِ، وكادَ يبكي حزنًا على الرّجل المسكينِ، فَواسَتْهُ أمّه: لاعليك يابُنيَّ، اُدعُ اللهَ لهُ، واللهُ لن ينساهُ هُوَ، وأولادهُ.
في اليومِ التّالي انفردَ يمانُ بمُدرِّسةِ التّربيةِ الدّينيّةِ قائلًا: أستاذتي، ألم تخبرينا بأنّ الله يحبُّ الإنسانَ الّذي يزورُ مريضًا، ويجزيهِ على ذلك خيرًا؟ قالت: طبعًا ياصغيري، لمَ تسألُ؟ فحكى لها القصّةَ، وطلبَ مساعدَتها في تشجيعِ الطّلّابِ على جمعِ مبلغٍ صغيرٍ من المالِ لذلك الرّجلِ الفقيرِ، فوافقتِ المعلّمة مسرورةًً، بل شكرَتْهُ على ذكائِهِ، ونبلِ أخلاقِهِ.
بعد يومَينِ تمَّ جمعُ مبلغٍ لابأسَ به من الطُّلَّابِ ثمّ لمّا سمع المدرّسون، ساهموا أيضًا كلٌّ حَسْبَ استطاعتِهِ. وقاموا بوضعِ المبلغِ في ظرفٍ أنيقٍ كَتَبوا عَليْهِ: (هديّةٌ متواضعةٌ من أساتذة وطُلّاب مدرسةِ "التّربية الفاضلة") وكانَ يمانُ وبضعةُ طُلّابٍ اختارتْهمُ المعلّمةُ قد استأذنوا أهاليهم لزيارة ِالبائع ِبعد انتهاء ِالدّوام المدرسيِّ، فتوجّهوا مع المعلّمة ِالّتي ساعدتْ يمانَ ورافقوا ابنتَهُ الصّغيرةَ كي تدلّهم على المنزلِ
سُرَّ بائعُ الرّمّانِ كثيرًا لمّا رأى يمان والزّائرينَ الّذينَ قدموا برفقةِ ابنتهِ. كانَ منظرُهُ يوجعُ القلبَ، وهو مستلقٍ، وقد لُفَّت ساقُهُ بجبيرةٍ كي ترمّمَ كسرَها، كما أنّ وجهَهُ كانَ عليه آثارُ كدَماتٍ زرقاءَ بسببِ الحادثِ الأليمِ. لمْ تطُلْ زيارتُهم كي لايُحرِجُوهُ. استأذنوا متمنّين له الشّفاءَ العاجلَ والعودةَ لِعملهِ فاغرورقَتْ عيناهُ بالدّموع قائلًا: لن أستطيعَ العودةَ لعملي فعربتي قد تحطّمت، قاطعتْهُ المعلّمةُ مادّةً الظّرفَ وهي تودّعه، قَائِلة: هذه هديّةٌ جدًّا متواضعةٌ نتمنّى ألّا تردَّها وكلّنا أملٌ بأنّها ستُساعدُكَ في العودة ِلعملِكَ. قبِلها البائعُ العجوزُ وهو ممتنٌّ لهم جميعًا على هذا الموقفِ الإنسانيِّ الرّائعِ ورافقهم أفرادُ أسرته حتّى خرجوا من باب المنزل. داعينَ لهم بالتّوفيقِ والسَّدادِ.
في اليوم التّالي أثناءَ الاصطفافِ الصّباحيِّ استدعى المديرُ يمانَ، وحكى للطّلّاب مافعلهُ مُثنيًا على خُلُقه وأدبهِ، قائلًا: نحنُ نأتي إلى المدرسةِ لالنتعلّم فقط الكتابةَ، والقراءةَ، وإنّما لنتلقّن دروسًا في الأدب والإنسانيّة، وحُسنِ التّعاملِ مع الآخرين، ومافعله يمانُ يدلُّ على حُسن تربيتهِ، وخُلُقُهِ الحميدِ ورهافةِ شُعوره، ثمّ قدّمَ لهُ بطاقةَ شُكر ذهبيّةً كي تبقى عندَه تذكارًا لماقامَ به من عملٍ إنسانيٍّ رائعٍ.
مرّتِ الأيّامُ.. تعافى بائع الرّمّان وعادَ من جديدٍ يقفُ عندَ باب المدرسةِ بابتسامتهِ الحنونةِ وملابسهِ المتواضعةِ الّتي يفوحُ منها عطرُ الكرامة، والشَّرَفِ. أمّا جميلُ الخُلُقِ يمانُ فكانتْ فرحتُهُ لاتوصَفُ. عاد إلى المنزلِ وأخبرَ والدَيهِ عن عودةِ الرّجلِ الفقيرِ وهوَ يُغنّي مسرورًا لأمّه: أمّي ياجميلة ياسيِّدةَ اللطفِ والحنانْ.. اشتريتُ لكِ الكثيرَ منَ الرُّمَّانْ.. حضِّري لي كأسَ عصيرٍ منهُ ياعذبةَ الأناملِ وارضي عنّي فَمِنْ تحتِ قدَمَيكِ جنَّةُ الرّضوانْ