موضوع: باب خالتي سهيلة ( الجزء الثاني) - ايمان الدرع الثلاثاء يونيو 30, 2020 9:51 pm
باب خالتي سهيلة ( الجزء الثاني) ********** عندما يحين موعد ولادة امي كانت خالتي سهيلة مقصدنا نناديها على وجه السرعة..: ـ أمي عم تولد قال لا تتأخري ضروري ضروري.. تضرب بأطراف أصابعها على صدرهامرددة: ـ ولي على قامتي يا اللا جاية تتسارع خطواتها تشق طريقها نحو بيتنا تتلمس ضوء الصباح قبل أن يهلّ باسطاً أذرعه على أرجاء الحارات الشامية النائمة الفاصلة بيننا تدخل متلهفة وهي تفكّ عنها ( المانطو) الكحلي تتوجه نحو سرير امي الراقدة مع اوجاعها لحظة انتزاع كائن ضعيف يستغيث باكيا من عالم جديد اقتحمه بعد شهور من أمان تتألم أمي..تصرخ ..القابلة تتفحصها : ــ هانت يابنتي هانت عيني ولدك قربتي تولدي تمسك بيد خالتي سهيلة..ــ دخيلك ياخالتي.. تتماسك الخالة يجب ان تكون قوية أمام أمي..يعلو صوتها: ..ــ شدي حالك عطي نفس رح تروحي الولد عطي عزم يا اللااا يا اللا قولي يارب هاتي ايدك شدي على ايدي بينما جدتي البسيطة الطيبة تروح وتجيء في الخارج تبكي جتى الرعاف وهي تتضرع إلى السماء ان تقوم ابنتها بالسلامة . لاتقوى على دخول الغرفة حتى تتأكد من ولادتها وتسمع صرخة الحياة من القادم الجديد فتدخل ومعها الماء الساخن تعانق امي وتقبل أختها التي انفرطت فيها مكابرة شحذتها كي تنقذ ابنة أختها في لحظة فارقة..تتطلب منها القوة. ــ الحمد لله على سلامتك تقبريني (وهي تمسح جبينها المتعرّق بمنديلها، بعد توتر مكتوم وخوف). في كل مرحلة من مراحل حياتنا كانت قاسما مشتركا للتفاصيل كبيرها وصغيرها عند كل سيران عائلي إلى مصايف الزبداني كانت لاتهنأ إلا يوجود أمي قربها نتوزع نحن الأطفال على مقاعد القطار براحة مطلقة..فأعداد الأفراد كثر يكاد يغطي ( فركوناته) وكانه محجوز لنا وحدنا.. نقطع المحطات تارة نغني على عادة الدمشقييين، وأخرى نرقب فيها الأشجار المثمرة في قرى الوادي وقد تلوى بينها نهر بردى محاطا بالحور والصفصاف وصافرة القطار تعلو وتتقطع ونحن نحاول ان نفوز بقطع أغصان غضة من الشجر المتداخلة مع النوافذ على عجل للحظات خاطفة..نلوّح لمن نلقاه في طريقنا من أبناء الريف او المصطافين ويبادلوننا التحية بلهفة وكأننا نعرفهم..يرمون الينا بالورد والمشاغب منهم بالحصى مداعبا فنخفي رؤوسنا للحظات خلف النوافذ الحديدية وسط استنكار كبارهم حد الشتيمة. واليافعون منهم يقفون محاذاة سلالهم التي تطرح ثمار بساتينهم من جوز وتين وعنب وتفاح سكري ومشمش في عروض ومقايضة سريعة عندما يتوقف القطار في محطة عابرة للحظات خالتي سهيلة كانت قائدة الاوركسترا في كل سيران تضع ترتيباتها بشكل مدروس ةانسيابي ومرح تشمل برعايتها الجميع ..ويقوم الرجال الكبار من العائلة على إتمام حفلة الشواء وسط طبيعة خلابة يهدر فيها النهر يفرض سطوة يحسب حسابها كل من يجلس على ضفافه او من يشمر عن ساقيه محاولا النزول إلى مائه البارد يغبّ لحظات منعشة وبين لعب وغناء وفوازير ووشي أسرار وعتاب سريع وصلح يمضي النهار ونحن في دوامة سحر لم نعرف بعدها ذات الطعم الشهي الممتع حتى أقاصي الروح رغم تعدّد الأسفار ورفاهية الأماكن. خالتي على عادتها لم تترك أمي وحدها ونحن نستعد إلى مغادرة بيتنا الدمشقي إلى ضاحية قريبة منها تسمى قدسيا تتوسط دمر والهامة..بيت كبير فسيح حديقته كبيرة وغرفه واسعة متعددة ولكنها لم تبهجنا في البداية كنا نحنّ إلى زواريب الشام وبيوتاتها العتيقة وحاراتها وأسواقها بيوت الأهل والجيران والأصحاب. طريق الصالحية والشعلان وحديقة السبكي . بيت ستي وأهل أمي بيت خالتي التي بقيت الحضن الدافئ والقلب الكبير كلما تعثر الوقت بأمي تقف إلى جانبها داعمة لها بكلّ السبل. كلما ضاقت الحياة بامي قصدتها ودقت بابها الذي لم يوصد يوما وقد كانت عبارتها المحببة الى قلبي هي شيفرة الدخول: أهلا وسهلا تفضلي تقبريني تصف الموائد العامرة بالخير فقد عرف عنها نفسها الطيب في الطعام ذواقة من الدرجة الأولى ... هذه المائدة فرض على من يدخل سواء كان شبعانا ام لا .. على المقسوم هكذا تقول والويل لمن يرفض.. سارت بنا الحياة أعواما عديدة ... اعتدنا فيها السكن في قدسيا وعوالمها الجميلة واندمجنا مع المحيط الجديد بل وأحببناه ونحن نكوّن مجتمعا جديدا طيبا في محيط الجيران والمدارس وتفاصيل الحياة المختلفة فيها تلك المعادلة المتجاذبة بين ريف ومدينة، وقد شكّلت صورة حلوة، وتوليفة هادئة بسيطة بعيدا عن الضجيج المستحدث في دمشق القديمة وماحولها غير أن شيئا غريبا دخل على حياتنا زعزع استقرارها وسعادتها شيئا جعل الدمع لايفارق عين أمي ويسرق مرحها وأغانيها وحيويتها ..إنه الجفاء بل والقطيعة بينها وبين خالتي سهيلة.. شيئا لم نعهده ولا نصدق أن يحصل ولكنه حصل... يتبع في الجزء الثالث...