موضوع: باب خالتي سهيلة : ( الجزء الأول ) - ايمان الدرع الثلاثاء يونيو 30, 2020 9:54 pm
باب خالتي سهيلة : ( الجزء الأول ) ******* قبل أن تغلق خط الهاتف سألتها: ـ كيف ستعالجين الموضوع؟ أجابتني على الفور: ـ بعد رمضان وحين ننتهي من كابوس الكورونا أول ما سأفعله هو تطليقها من ولدي.. أجبتها مستنكرة: ــ ولكنك خالتها..ابنة شقيقتك الوحيدة ، سيحدث شرخا كبيرا بينكما، ألم تفكري بعواقب الأمر؟؟ ـــ ماعاد يهمني ، وليكن مايكون، المهم راحة بالي، ماعدت أطيقها.. ــ طيب ماهو رأي ابنك ( سألتها )؟؟ ــ ابني يلفّ ويدور قليل الكرامة والقيمة يجاملني ويزورها خلسة في دار خالته..قلت له لارجعة في القرار وإن أرادها فليخرج من المنزل..ويلحق بها..غير مأسوف عليه. شعرت بخيبة أمل كبيرة من موقفها، وأنا أنهي النقاش لعدم جدواه، فبغضّ النظر عن الخلافات الحاصلة بينهما، ما صدمني في الأمر صلة القربى بينهما..صلة من الدرجة الأولى. ماذا حصل يا زماننا؟؟ وياصور ماضينا الجميل أين ولّيت؟؟ على الفور تذكرت خالتي سهيلة..هي خالة أمي..ولكننا لآخر لحظة قبل رحيلها ـ رحمها الله ــ كنا نناديها خالتي فأمي وحيدة جدتي من الإناث و كان بها تعويض ذاك الفراغ في حياتنا. امرأةدمشقية اختزلت النساء في شخصيتها..سيدة بيت من الدرجة الأولى ، مضياف، لحديثها عذوبة تنساب حكمة وحنانا وخبرة ..صريحة في رأيها لاتعرف المحاباة، نظيفة السمعة والثوب والدار.. وفوق كل ذلك كانت تعشق الموسيقا والغناء ..مامن حفلة تقام في بيتها الدمشقي القديم في حيّ باب الجابية إلا وكانت أنغام عودها الرنان تحرك الصبايا على إيقاع ريشتها..وخاصة ( رقصة ستي) المنسابة بين أصابعها بمرونة فنية عالية. كلازمة عند كل لقاء طربي نسوي. كانت تحبّ الأسفار وارتياد المصايف المشهورة..ودور السينما..ومستجدات الأزياء..عصرية الفكر في زمن تحكمه وصاية الإرث والعادات. وفي ذات الوقت كانت ركز عائلة أمي ..فرضت احترامها على الجميع ..الكل يستشيرها ويسألها الرأي لما عرف عنها من رجاحة العقل وسداد الرأي. امي ــ رحمها الله ـ كانت متعلقة بها..وجدت بها ضالتها كانت تبحث عن شخصية مميزة تقتدي بها وتسير على هديها وتشحذ طموحها اللا محدود..فجدتي لأمي كانت بسيطة طيبة تربي أيتاما بعد وفاة جدي وتمتهن صناعة خيوط الحرير في منزلها . كي لا تمد يد العوز إلى أحد...وبقيت حتى الرمق الأخير في عوالمها المؤطرة ضمن الجدران الضيقة المؤنسة لشخصيتها الصبورة المجاملة النمطية، مسالمة تمرر الضيم أحيانا بعداً عن المشاحنة والمشاكل. أمي حرصت كل الحرص على تقديم الطاعة لها وكسب رضاها ولكنها تعلقت بخالتها سهيلة التي أدركت بفطنتها وذكائها هذا الشرخ في حياتها والتعطش إلى المعرفة والطلاقة وتعلّم فنون الحياة على أصولها..فرعتها وحضنت مواهبها..ووجهتها بالشكل السليم الداعم لشخصيتها.. كانت لها السند في كل محطات حياتها وفي أصعب ظروفها وقفت الى جانبها.. تقصدها، تستشيرها ..كنا نحن الأبناء نعرف مدى تيك العلاقة المتينة بينهما فنروح ونجيء نطرق بابها كلما ألمّ بأمي أمر طارئ ..لم يكن الهاتف قد وصل دمشق بعد حينها..فكنا نقوم مقامه، نركب باص ميدان شيخ، أو نتخذ ( الترين ) ذا السكك الأرضية الحديدية وأجراسه المعلّقة وسيلة للوصول بين حي الشهداء مكان سكننا، ( قريبا من شارع الحمرا اليوم ) إلى بيتها في حيّ باب الجابية الذي يضم أجمل البيوت الدمشقية وأعرقها.. لم يغلق بابها يوما في وجوهنا..عندما نطرقه كانت تمد رأسها من النافذة الخشبية العلوية المزخرفة بعوارضها المتقاطعة بشكل هندسي يشاغب ضوء الشمس المتسللة إلى صدر الغرفة بمرح... .متهللة، مرحبة، تتضاحك قسمات وجهها النوراني المحاط بغطاء أبيض كالثلج، تنادي على من في الدار أن يفتح للقادم ، وإلا رمت لنا بالمفتاح لنقوم بفتحه بأنفسنا ..وبعبارتها المعهودة تستقبلنا: ــ مين؟؟ لميا وولادها ؟؟ أهلين تقبروني تفضلوا يامية أهلا وسهلا. فنصعد إليها مجتازين أرض الديار والبحرة الرخامية النظيفة ولاننسى نحن الأطفال ان نداعب السلحفاة المخبأة في صندوق كرتوني على ملفّ الدرج الحجري العتيق ، وهي تخفي رأسها في درعها كلما حاولنا لمسه . وحين نصل إلى غرفتها العلوية تعانقنا فنشم فيها رائحة الفلّ والياسمين المخالطة لأحواض الزرع المتعرّش على الجدران حتى أعلاها. ( يتبع في الجزء الثاني)