شو بقي من العمر النا شو بقي - ايمان الدرع

Admin عدد المساهمات : 2717 تاريخ التسجيل : 26/02/2009

شو بقي من العمر النا شو بقي..غير المحبة وغير ها الوعد النقي..وكلما ازرق الغيم ع حدودالسما بتذكرك وبقول بعد بنلتقي...( هذه الصورة تذكرني بموال شحرورة الوادي صباح في اسكتش مخمل أزرق..لما اوفى زوجها الفقير بوعده وأتى إليها بقطعة قماش من المخمل الأزرق حلمها القديم يوم عرسها..ولكنها تهديها الى حفيدتها سلمى لانها كبرت وصارت عجوزا و قطعة القماش تليق بصبية صغيرة حلوة مثل حفيدتها..
حينذاك يردد زوجها بألم : تأخرت كتير ت عطيتي يا مواسم الزيتون.
في صبيحة يوم تشريني تسللت منه نسيمات باردة إلى غرفتنا ـ غرفة الأطفال ــ في بيتنا الدمشقي العتيق أفقت على صوت المذياع الصغير الذي يرافق أمي أنى تحركت في المطبخ في أرض الديار حين تشطف الدرج العالي وتسقي عرائش الياسمين..
هذا الصباح مختلف..ثمة أغنية كانت
تصدح منه أسالت دمع أمي وهي تخيط لنا ثيابا جديدة ، يدها اليمنى على قرص تدوير مكنة الخياطة ،وفي الاخرى كانت تمسح عبراتها..
عرفت بان سبب البكاء أنها قدمتنا على نفسها أنا وأختي الكبرى فخاطت لنا ثيابنا المخملية الجميلة من قطعة قماش جاءتها هدية من قريبة لها قادمة من الحج.. في الوقت الذي قلبت فيه فستانها على الوجه الآخر لتلبسه مدورا بشكل جميل..أنيق
وعرفت في ذات الصورة بان طقم أخي ملهم كان بدلا عن قميص نوم فاخر أتتها به صديقة العائلة بمناسبة ولادتها ..فاستدلت مكان محل التاجر وأبدلته .به.
أمي اللمياء كانت اليد المنتجة في البيت....تنقض الصوف القديم لتحيكه جديدا مع لون آخر في تصميم جديد...تخيط ،تطرز أغطية الطاولات والأسرّة ، تنقل الرسوم عن واجهات المحال وتنفذها على وسائد توزعها بافتخار على أمكنةٍ حيوية من الغرفة ( ترسم لقريباتها ذات الرسوم التي كانت شهيرة حينذاك ( روميو وجولييت) على أقمشتهن لينفذنها على شكل مطابق لفرط افتنانهن بها.
تصنع الحلوى بإتقان تقصدها فيه صبايا العائلة كي يتعلمن منها وخاصة الكعك الاسفنجي لقبوها: ( ملكة الكاتو )
لم تنم في الليلة التي سبقت حفل زفاف قريبة لها. دعيت اليه متأخرة....أعفت الوالد تلقاء نفسها من شراء فستان جديد..أتت بفستان سهرة لبسته في مناسبات سابقة ..تجوّلت تستطلع واجهات المحال في طريق الصالحية قريبا من سكننا وفي شارع الطلياني حتى سوق الحميدية..دمجت كل ما رأت في شكل جديد للفستان زينته بشك حبات لؤلؤية وماسية ومن الخرز والسيلان..سهرت حتى الصباح ، قصت كما منه وأسدلت من الكتف وشاحا شفافا ألصقته بدروب أخرى من الحبات اللامعة توهجاً المتوافقة مع حزام الوسط الذي أظهر قوامها الممشوق
وحين دخلت أرض ديار بيت العريس كانت ملكة الحفل بلا منازع وهي تزيح الغطاء عن شعرها الأشقر ..وتفك أزار معطفها لينتزع فستانها شهقات صبايا العائلة وبسملة الكبار منهن ان يدرأ عنها كل عين لا تصلي على النبي..
والدي كان موظفا في الدولة مدرسا له مكانته في كبرى مدارس المحافظات ومساهما في إدارة معهد موسيقي.. ولكنه عصامي بنى نفسه بنفسه..كان في بداية تعيينه لايمتلك غير شهادته الأزهرية العالية، رقيق الحال يساهم في إعالة أسرة كبيرة العدد حين غاب جدي ورحل رحمه الله ..لم يكن يملك بيتا تنقل بين بيوت كثيرة اكتراها في محافظات عدة..ولكنه كان مجدا وطموحا...لم نكن نشعر أننا نشكو من فاقة..
أمي دائما تضع كل قرش في مكانه فكانت أول من جلب الثلاجة ، وأول من أدخل التلفاز إلى حينا في فترة الخمسينات..
عند المساء تتجمع الجارات وأولادهن في غرفة الجلوس حتى انتهاء الفيلم العربي ..و حفلات أضواء المدينة أيام الوحدة بين سوريا ومصر..
كانت دائما باشة الوجه تشرع في تحميص لبّ البطيخ . المجفف على مصفاة تحت حرارة الشمس .وتوزعه في صحون صغيرة مع كاسات شراب الحصرم الشامي اللذيذ أو التوت الشامي..وتنهي السهرة بفنجان قهوة تزيد الجلسة حميمية وأنسا..
أمي كانت تطمح إلى استبدال بيتنا العربي ببيت يشبه القصر في ضاحية قريبة من دمشق اسمها قدسيا المشهورة بطيب هوائها وجمال طبيعتها وحسن معشر أهلها وقد سبقنا إليها العديد من العائلات الشامية المعروفة
أشركتنا هذا الحلم الجميل..رسمته لنا على الورق.. هنا غرفة البنات وهنا غرفة البنين هنا الصالة الكبيرة وهنا غرف الجلوس والمكتبة ..رسمتني وانا ألعب الهيلاهوب. وخصلات شعري تطير مع الهواء....وملهم أخي الكبير يلعب الكرة ومؤمن يعزف الكيتار و مريم تقرأ..ووجدان الفنانة تخيط العرائس وبيان الصغرى كانت تحبو بثيابها الطفولية الملونة. وشعرها البني الملفوف ...كانت عيوننا تلتمع بدهشة ونحن نرقب المسكن الموعود. المرسوم بخطوط أمي.
لم نكن نشعر بهذه التبدلات كانت ماهرة حتى في أصناف الطعام ، فتعد من الصنف الواحد أطباقا منوعة شهية بسيطة ..وبين الفترة والأخرى تصر على اصطحابنا إلى مطعم مختص بالشواء ( مطعم الوفاء) القريب من بيتنا ..
استعدت أمي تماما للبدايات السعيدة كانت تحمل الغداء الشهي الى العمال حين صب الأسقف بالاسمنت وحين تفريغ حمولة سيارات الشحن الكبيرة..من بلاط ورمل وحصى
يفترشون الأرض يمسحون عن جباههم حبات العرق وهم يتناولون بشهية ما تعده أمي..
كان بيتا كما أرادته تماما هاربا من ألف ليلة وليلة، حتى الأثاث يبدو مذهلا بعد أن باعت القديم منه لجارنا الأرمني الذي كان يشري الأثاث المستعمل ويعيد تجديده بإتقان وإبداع.
والدي رحمه الله جعل من حديقته الواسعة موئلا لنا نحن الصغار زرعه بأشجار مثمرة شهية القطاف.. ..والأرض حوّل مساكبها إلى بساط سندسي يحمل جميع أنواع الخضار وأطيبها ..
كثيرا ما كنا نقطف منها بشكل مباشر ونصنع التبولة ونقلي الباذنجان على حافة مصطبة مخصصة للجلوس..وقربنا بعض أغنام أليفة تتبعنا وتأكل من أيدينا، وعدد من دجاج نشيط و ديك يختال بصياحه بغرور ينقر بوحشية كل من يقترب منهن .. وأرانب جبانة تختبئ بين الجحور.
وفي زاوية مخفية خصص للبنات مسبحا مشدّرا لا يقترب منه أحد غيرنا..
هذه المرحلة الجميلة من حياتنا لم نكن لنصل إليها إلا بفضل تدبير أمي وجهد وكفاح أبي
كثيرة هي المحطات التي رددت فيها ذات الموال ..وأنا أذوب بين تفاصيل الحياة كي أضمن مستقبل أبنائي..من أجلهم كم نسيت نفسي وبعت مصاغي..وكم سال دمعي وكم تحرقت من أجل ان أراهم على أحسن حال ..مستقرين في بيوتهم سعداء..
وفي تلك الحرب اللعينة خبأتهم تحت جنحي ..صاروا كبارا...ولكن تمزّقتْ من أجلهم روحي كي أبعد عنهم حمم النار وتعب الروح ويأسها..وأزرع فيهم الأمل بفجر جديد
كل الأمهات السوريات تشبه اللمياء أمي.. كلهن بسطن الروح من أجل أن يحمين فلذات أكبادهن، يبتلعون الأسى ..الفقر ..الفقد الشتات ..بصبر عجيب
لا يعترفن بقيصر وما دبرّ. ليس بناء على تحليلات سياسية ممجوجة حد الغثيان ..ولكن من أمومة عالية المسؤولية والإحساس بالواجب والحماية...كلهن خنساوات صابرات
ولسوف يصلن الى بر الأمان منتصرات بعون الله..رغم كل عذابات المرحلة وقهرها
و إني لأسمع من وراء الغيم موالهن ذاته::: ((شوبقي من العمر النا شو بقي..غير المحبة وغير ها الوعد النقي وكل ما ازرق الغيم ع حدود السما بتذكرك وبقول بعد بنلتقي.))
..وتأخرت كتيييييير ت عطيتي يا مواسم الزيتون...

شو بقي من العمر النا شو بقي - ايمان الدرع 10600210

» درب حلب ومشيته - ايمان الدرع
» باب خالتي سهيلة : ( الجزء الأول ) - ايمان الدرع
» رماد حلمٍ / إيمان الدرع